الصراع العربي-الإسرائيلي وأزمات المنطقة
الصراع العربي-الإسرائيلي وأزمات المنطقة
- 24 يناير 2007
تعددت في الفترة الأخيرة التصريحات والدعوات المطالبة بحل الصراع العربي-الإسرائيلي، باعتباره المدخل لحل كثير من الأزمات التي بدأت تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتضعها على حافة الانفجار الشامل؛ ففي تقريرها الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2006 حول الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، أكدت مجموعة الأزمات الدولية أنه "طالما استمرت الجذور السياسية لهذا الصراع من دون علاج، فسوف تظل مصدراً لا ينضب وذريعة للقمع والراديكالية وسفك الدماء في المنطقة وخارجها". وقبل ذلك بأيام قليلة، أصدرت 136 شخصية سياسية دولية معروفة (من بينها 8 من حملة جائزة نوبل، و56 رئيس دولة ورئيس حكومة سابقين، و36 وزير خارجية سابقاً، ومسؤولين أممين وأوروبيين) بياناً طالبت فيه بعقد مؤتمر دولي عاجل للسلام في الشرق الأوسط، معتبرين أن استمرار الصراع يعني استمرار العنف وعدم الاستقرار في المنطقة وخارجها؛ لأنه يعزز قوة وشعبية المتطرفين في العالم أجمع.
وفي تقريره الأخير عن فترة توليه الأمانة العامة للأمم المتحدة، اعتبر "كوفي عنان" أن "الفشل في إيجاد حل شامل للنزاع العربي-الإسرائيلي المزمن يبقى المصدر الرئيس للإحباط وعدم الاستقرار في المنطقة"، مؤكداً أن تحقيق الاستقرار في العراق ولبنان وأي مكان آخر يمر عبر إنهاء احتلال الأراضي العربية في فلسطين والجولان وإقامة سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط استناداً إلى قرارات مجلس الأمن، ثم جاءت توصيات لجنة بيكر-هاميلتون، لتصب في الاتجاه ذاته؛ حيث أكدت اللجنة أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تحقق أهدافها في العراق والشرق الأوسط عموماً ما لم تعالج مباشرة النزاع العربي-الإسرائيلي وما يرتبط به من عدم استقرار إقليمي.
هذا الربط المباشر بين الصراع العربي-الإسرائيلي وتفاقم أزمات المنطقة ليس جديداً بطبيعة الحال، ولكن الجديد والمثير هذه المرة أن يتم هذا الربط داخل إسرائيل نفسها؛ حيث بدأت تبرز بعض الأصوات التي تطالب بإنهاء هذا الصراع، الذي بدأ يفرز أزمات تهدد وجود الدولة العبرية ذاتها، مثل تزايد قوة التيار الراديكالي المتطرف وظهور بعض القوى الإقليمية التي تستخدمه كذريعة لتنفيذ مخططاتها نحو الهيمنة وامتلاك السلاح النووي، ومن بين هذه الأصوات "شلومو بن عامي" وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، والذي قال في مقال له نشر بصحيفة "هاآرتس" يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 2006 "إن الكثير من أمراض المنطقة قد لا ترتبط بالصراع العربي- الإسرائيلي، ولكن حل هذا الصراع سيكون له تأثير بعيد المدى على احتمالات إعادة الاستقرار في المنطقة كلها، وعلى مكانة إسرائيل وأمريكا كذلك"، مشيراً إلى أن المحك الرئيس لمصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لا يتجسد في تحقيق النصر في العراق، ولكن في إنهاء هذا النزاع، الذي بدأ يتحول إلى نزاع ديني ثقافي أكثر خطورة على إسرائيل. كما نشرت الصحيفة نفسها مقالاً آخر للمستشار السياسي الإسرائيلي "زلمان شابيرا"، ذكر فيه أن "القيادة الإيرانية تستغل انعدام التسوية للمشكلة الفلسطينية لتأجيج الخواطر في المنطقة ونزع الشرعية عن إسرائيل"، معتبراً أن تسوية هذه المشكلة سيتيح لبلاده حشد تأييد الدول العربية المعتدلة في مواجهة "إيران الشيعية"!! فيما علقت الصحيفة على هذا المقال قائلة: "إن السلام مع العالم العربي يستلزم دفع الثمن، ولكن منع إيران من الحصول على موطئ قدم لها على حدود إسرائيل وحرمانها من الشرعية الشعبية لتطوير السلاح النووي يبرر دفع ذلك الثمن".
لا أحد يستطيع أن ينكر خطورة الانعكاسات السلبية التي ترتبت على عدم تسوية هذا الصراع الممتد منذ أكثر من نصف قرن على الأمن والاستقرار ليس فقط في المنطقة بل في العالم كله؛ فمشاهد القتل والتدمير والتنكيل اليومية والمجازر الجماعية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين بشكل خاص والعرب عموماً طوال هذه الفترة، ومازالت ترتكبها، مثلت العامل الأكثر حسماً في زيادة شعبية ونفوذ التيارات الراديكالية والمتطرفة في المنطقة والعالم؛ حيث استغلت هذه التيارات تلك الجرائم، في تبرير مواقفها ودعواتها المتطرفة، وتجنيد المزيد من الشباب الغاضب في صفوفها، كما أثارت هذه الجرائم موجة سخط وغضب واسعة في أوساط شعوب المنطقة، ليس فقط ضد إسرائيل، ولكن ضد كل القوى الدولية الداعمة لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وامتدت موجة الغضب تلك إلى الحكومات العربية، التي يتم وصفها غالباً بالمعتدلة- والتي تم اتهامها بالعجز عن مواجهة هذه الجرائم، بل واعتبرتها بعض التيارات المتطرفة متواطئة مع الاحتلال وعميلة للقوى الداعمة له!!
استمرار الصراع استغلته أيضاً بعض دول المنطقة في تأخير عملية الإصلاح السياسي والديمقراطي، وهذا ما ولّد بدوره مزيداً من مشاعر الغضب والإحباط في صفوف الشعوب، لاسيما مع فشل هذه الدول في مواجهة الجرائم الإسرائيلية ووقفها، كما تسبب هذا الصراع في تراجع برامج التنمية والنمو في دول المنطقة، نتيجة تركيز العديد من هذه الدول على إدارة عملية الصراع وتوجيه مواردها في هذا الاتجاه، فضلاً عن الآثار التدميرية للحروب الستة التي شهدتها المنطقة في إطار هذا الصراع، وقد أدى هذا التراجع في برامج التنمية إلى تزايد معدلات البطالة والفقر، ومن ثم مزيد من الإحباط والتطرف.
القضية الفلسطينية، قلب هذا الصراع وجوهره، كانت ولازالت تمثل الهدف العريض لأية قوة إقليمية تسعى لتأكيد مكانتها ونفوذها؛ فمصر الناصرية استمدت سطوتها الإقليمية من قيادتها لهذا الصراع وتبنيها للقضية الفلسطينية. وعندما قام بغزو الكويت، رفع الرئيس العراقي السابق "صدام حسين" شعار تحرير القدس!! واستهدف إسرائيل بعدة صواريخ أثناء حرب تحرير الكويت لنيل تعاطف الشعوب العربية. واليوم تسعى إيران، في إطار تأكيد زعامتها الإقليمية، إلى توظيف هذا الصراع وقيادة المواجهة مع إسرائيل، التي طالب الرئيس الإيراني بإزالتها من على خريطة المنطقة، وهي في سبيل ذلك تسعى إلى تطوير قدراتها العسكرية، وامتلاك السلاح النووي، بحسب الاتهامات الإسرائيلية والغربية.
وهكذا، فإذا كان استمرار الصراع العربي-الإسرائيلي هو أساس كل أزمات هذه المنطقة، التي أصبحت بحسب وصف العاهل السعودي كـ"خزان البارود" القابل للانفجار، فإن المنطق يفرض ضرورة التحرك الجاد والعاجل، لوضع نهاية لهذا الصراع، بعد أن وصلت كل المبادرات والتسويات المطروحة إلى طريق مسدود. ويلاحظ هنا أن الأفكار المختلفة التي طرحت لتسوية هذا الصراع مؤخراً تتميز في بعض جوانبها بالموضوعية والتوازن، والرغبة في تجنب عوامل فشل الجهود السابقة التي بذلت في هذا الإطار؛ فتقرير المجموعة الدولة للأزمات، المشار إليه آنفاً، يؤكد ضرورة تحديد الهدف النهائي من أية مفاوضات أو جهود لتسوية هذا الصراع مبكراً، حتى لا تضل هذه المفاوضات وتلك الجهود عن مسارها المنشود، والهدف -طبقاً للمجموعة- ينبغي أن يكون واضحاً لا غموض فيه، وهو "توفير الأمن والاعتراف التام بدولة إسرائيل ضمن حدود دولية معترف بها، مقابل إنهاء الاحتلال للشعب الفلسطيني، وقيام دولة مستقلة ذات سيادة، على أساس حدود 1967، تكون القدس الشرقية عاصمتها، وحلاً عادلاً لقضية اللاجئين، واسترجاع سورية لأراضيها المحتلة، ودولة لبنانية كاملة السيادة والاستقلال". وهذا الهدف، الذي يتفق، كما هو واضح، مع نصوص مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت عام 2002، هو نفسه الذي طرحه البيان الصادر عن مجموعة الـ 136، المشار إليه آنفاً، والذي طالب بعقد مؤتمر دولي عاجل للسلام في الشرق الأوسط، استناداً إلى قراري مجلس الأمن رقمي 242 و338 ومبادرة السلام العربية وخطة خريطة الطريق، لوضع الآليات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
وإذا كان الهدف واضحاً، فإن غياب الإرادة السياسية الدولية، والأمريكية بشكل خاص، يظل هو العائق الأساسي أمام أية جهود للوصول إلى تسوية عادلة لهذا الصراع؛ فالولايات المتحدة، التي تتفاقم معاناتها في المستنقع العراقي، وتزداد هواجسها تجاه إيران، أصبحت اليوم أقل اهتماماً بهذا الصراع، كما أنها لا تعطي أيه إشارات إيجابية على إمكانية إعادة النظر في موقفها المنحاز لإسرائيل؛ فهي لازالت ترفض التعامل مع حكومة حماس، وتشدد الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني الذي انتخب هذه الحكومة بطريقة ديمقراطية اعترفت هي نفسها بنزاهتها، كما ترفض الدخول في أية مفاوضات جادة مع سورية، فيما يتهمها البعض بمحاولة إشعال الساحة الداخلية اللبنانية بدلاً من تهدئتها، بل إن هناك من أصبح يشكك في قدرة واشنطن على فرض تسوية مقبولة لهذا الصراع حتى لو كانت ترغب في ذلك، نتيجة تورطها في العراق وتفاقم مشاكلها الداخلية والخارجية، في الوقت الذي تقف فيه القوى الدولية الأخرى وعلى رأسها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عاجزة عن التأثير في مسار هذا الصراع وتطوراته.
غير أن أكثر ما يثير الدهشة والحزن، أنه في الوقت الذي تتزايد فيه المطالب الدولية بضرورة تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، وفي القلب منه القضية الفلسطينية باعتباره مفتاح حل كل أزمات المنطقة، ينشغل الفلسطينيون بكيفية إدارة الصراع بين بعضهم بعضاً، فيما ينشغل العرب بكيفية وقف التصعيد المتبادل بين حركتي "فتح" و"حماس" في الأراضي الفلسطينية، وبين "حزب الله" وقوى "14 آذار" في لبنان، لمنع انزلاق الأوضاع في هذين البلدين إلى الحرب الأهلية، وليس بإدارة الصراع مع إسرائيل ومحاولة الاستفادة من الظرف الدولي الحالي الضاغط لتسوية هذا الصراع وإنهائه بعد أن تأكد للجميع أنه العامل الأول والرئيس المسؤول عن حالة عدم الاستقرار التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط!!!.