يَوم الأحَد 30 مايو 2004
-
يقوم مفهوم التنمية الإنسانية على أنها "عملية توسيع خيارات البشر". ولا بد من التوقف هنا لتبيان مركزية الحرية في مفهوم التنمية الإنسانية. فمنطق توسيع خيارات الناس يرتِّب أولوية مطلقة لإعمال حرية الاختيار بين بدائل متاحة، الأمر الذي ينطوي بدوره على مركزية الحرية في التنمية الإنسانية، حتى إن بعض الكتابات النظرية الحديثة جداً تساوي بين التنمية والحرية.
وقد خلص تقرير "التنمية الإنسانية العربية" الأول عام 2002 إلى أنه "رغم الإنجازات التي حققتها البلدان العربية على أكثر من صعيد في مضمار التنمية البشرية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تبقى السمة الغالبة على مشهد الواقع العربي الراهن تغلغل نواقص محددة في البنية المجتمعية العربية تعوق بناء التنمية الإنسانية، حددها التقرير في نواقص ثلاثة: في الحرية، وفي تمكين المرأة، وفي القدرات الإنسانية- خاصة المعرفة. حتى إن أخذ هذه النواقص في الاعتبار، كما في تركيب مؤشر بديل للتنمية الإنسانية، يقلل من مكانة البلدان العربية على مقياس التنمية البشرية التقليدي، ويؤكد أن تحدي بناء التنمية الإنسانية مازال جد ضخم للغالبية الساحقة من العرب". وأكد التقرير الأول كذلك على أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يعد من أكبر العقبات في وجه التنمية الإنسانية في البلدان العربية، وهو تهديد سافر للأمن والسلام في المنطقة العربية كلها وفي المنطقة المحيطة بها.
ومن وجهة نظر تقرير "التنمية الإنسانية العربية" فليس هناك بديل عن الإصلاح من الداخل والمؤسس على نقد رصين للذات وإبداع مجتمعي فعال وأصيل تشارك فيه القوى الفاعلة في البلدان العربية كافة، ينشئ تحولاً مجتمعياً مقبولاً من الجميع من ناحية، وقابلاً للاستمرار من ناحية أخرى. وفي المقابل، لا يمكن للإصلاح المفروض من الخارج أن يخدم مصالح العرب بل إنه يخدم مصالح الذين يفرضونه، وهذا يستتبع لا محالة مقاومة مشروعة بل ومقدسة.
ومع ذلك، فليس هناك بديل حضاري لنهضة العرب إلا الانفتاح على العالم والحضارة الإنسانية التي شارك العرب فيها بنصيب حقيقي، وعليهم أن يستعيدوا شرف المشاركة الفاعلة فيها. فالانغلاق والانكفاء لا يورثان إلا الركود والعجز. والنظام العالمي لا جدال في أنه بحاجة للإصلاح، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على تحسن فرص النهضة في المنطقة العربية التي عانت كثيراً من ظلم النظام العالمي القائم.
وفي النهاية، فإن فرصة العرب في بناء نهضة إنسانية حقيقية، وفي إصلاح السياق العالمي بما يسمح بذلك، رهن بتعزيز التعاون العربي في مجال اكتساب المعرفة على وجه التحديد، والتنمية الإنسانية عموماً؛ حيث يمثل ضعف التعاون العربي إضاعة لفرصة تاريخية لا تعوض.
وبالمقابل فإن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي اعتمد على قراءة انتقائية ومغرضة لتقريرَي التنمية الإنسانية العربية الأول والثاني، يمثل محاولة من الإدارة الأمريكية الحالية لإسباغ قدر من المصداقية على مخططاتها الاستراتيجية في المنطقة العربية في سياق سعيها للهيمنة على العالم. فالإدارة الأمريكية الحالية تفتقد المصداقية في طرح محاولات إصلاح على العرب بسبب إهدارها المطرد لحقوق العرب المشروعة من ناحية، وإفساد نموذج الديمقراطية في الولايات المتحدة والعالم من ناحية أخرى.
والدليل الدامغ على أن المشروع لا يهتم بالعرب أو بمصالحهم ولا يستهدف إلا مصالح الولايات المتحدة كما تراها الإدارة الأمريكية الحالية، يتجلى في التعامي عن طموحات العرب وحقوقهم المشروعة في التحرر ومقاومة الاحتلال. بل إننا نرى أن المشروع يخدم غرض التغطية لدعم الإدارة الأمريكية الحالية لخطة رئيس وزراء إسرائيل لفك الاشتباك مع الفلسطينيين، وفشل الإدارة الأمريكية في دعم مشروعها لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، وعن انتهاكها، مع حليفتها المملكة المتحدة، لحقوق العرب في العراق.
إلا أن "الخواء الإصلاحي" في البلدان العربية يغري القوى الخارجية الساعية وراء مصالحها، وبخاصة تلك التي لا تراعي مبادئ أو حرمات، لمحاولة ملء هذا الفراغ خدمة لمصالحها. وليس المشروع المطروح إلا أبرز هذه المحاولات في الوقت الراهن.
يَوم الأحَد 30 مايو 2004
-
يَوم الأحَد 30 مايو 2004
-